فهذا بحث كتبته منذ مدة في تحقيق مناط الكفر في باب الولاء والبراء، والتعليق على مسألة مظاهرة المشركين على المؤمنين، وقد أَطْلَعتُ عليه بعضًا من أفاضل أهل العلم ممن لهم عناية بتحقيق هذه المسائل ولهم بها اختصاص، ومنهم الشيخ (عبدالرحمن المحمود) والشيخ (عبدالعزيز العبداللطيف) والشيخ (علوي السقاف) حفظهم الله ونفع بهم فاستحسنوه، فقوي عزمي على إخراجه رجاءَ الإفادة والنفع، وحلِّ شيء من الإشكالات والإجابة عن بعض الشبهات مما له صلة بهذا الباب، وذلك أنه قد قُدّر لي أن أطلع على جملة من الكتابات لبعض الفضلاء في مسألة الولاء والبراء، وتحرير حكم مظاهرة المشركين على المؤمنين، بَحَثَتْ في المناط المكفر في مسألة الموالاة والمعاداة، فوجدتُ بعضًا منها قد جعل ذلك راجعًا إلى محض الاعتقاد الباطن، فلا كُفرَ بموالاة الكفار مهما أظهر الموالي من صور الولاء ما لم يكن منه تصريحٌ بمحبة دين الكفار أو رضًا به.
كما لا كُفرَ بمعاداة المسلمين مهما أظهر المعادي من صور العداء ما لم يكن منه تصريحٌ ببغض دين الإسلام وكرهٍ له، وأُدرج في هذا السياق مسألة مظاهرة المشركين ومناصرتهم على أهل الإيمان، فجعلوها صورة من صور الموالاة المحرمة وأجروا عليها قاعدتهم تلك، فقالوا بأن هذه المظاهرة لا تكون كفرًا مهما تعاظمت ما لم يكن من صاحبها محبة لدين الكفار وتَمَنٍّ لنصرته، أما مجرد مظاهرتهم ومناصرتهم على أهل الإسلام لمصلحة دنيوية يجنيها المظاهر فإنها لا تكون كفرًا بذاتها حتى يقومَ بقلب صاحبها المعنى المذكورُ.
وقد وقع أولئك الكتاب - غفر الله لهم - في بحوثهم تلك في جملة من الأخطاء العلمية والمنهجية، التي أوجبت وصولهم لمثل هذه النتيجة التي تخالف ما عليه أهل السنة والجماعة في هذه المسألة، بل وتخالف ما هم عليه في مسائل الإيمان كما سيأتي.
ومن أهم تلك الأخطاء المنهجية:
• الاقتصار على إيراد ما يعضد كلام الباحث من النقول والأقوال أو يوهم ذلك، مع الإعراض التام عن كل ما يعارضه، ومعلوم لمن قرأ في هذه المسألة أن ثمة إجماعات يتناقلها أهل العلم يحكون فيها كفر المظاهر على أهل الإسلام، ولهم عبارات محكمة في هذا الباب ما كان ينبغي لمن تعرض لبحث هذه المسألة أن يتجاوزها، وقد أدى صنيعُهم هذا إلى تصوير القول بالتكفير في مسألة المظاهرة بصورة غير لائقة وكأنه قول شاذ دخيل لا قائل به، ولا يستحق أن يذكر أو يشار إليه، والأسوأ أن يصور هذا القول بأنه قول محدث، وأنه قول الغلاة، وأنه مما يجب مباعدته ومحاذرته.
• الأخذ ببعض كلام العالم والإعراض عن بعض، فتجدهم ينقلون كلمة للعالم في تأييد ما ذهبوا إليه من عدم تكفير من ظاهر على أهل الإسلام، ويُعرضون عن جملٍ صريحة له في التكفير، خذ مثلا ما ينقله بعضهم من قول الشيخ عبداللطيف بن عبدالرحمن رحمه الله في تفسير قوله تعالى: ﴿ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ ﴾ [المائدة: 51]، وقوله سبحانه: ﴿ لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ ﴾ [المجادلة: 22]، وقوله عز وجل: ﴿ أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُوًا وَلَعِبًا مِنْ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاءَ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ ﴾ [المائدة: 57]: (فقد فسرته السنة، وقيدته وخصته بالموالاة المطلقة العامة) [الدرر السنية 1 /474] فيتوهمون أنه يريد بالموالاة المطلقة العامة، محبته لدين الكفار وتمنيه لنصرته، معرضين عن عبارات له صريحة في خصوص مسألة المظاهرة تفصل الإجمال الواقع في هذه العبارة كقوله رحمه الله: (من أعانهم أو جرهم على بلاد أهل الإسلام، أو أثنى عليهم أو فضلهم بالعدل على أهل الإسلام، واختار ديارهم ومساكنتهم وولايتهم، وأحب ظهورهم؟! فإن هذا ردة صريحة بالاتفاق، قال الله تعالى: ﴿ وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ ﴾ [المائدة: 5] [الدرر السنية 8 /326].
• عدم الدقة في فهم كلام أهل العلم بل وتقويلهم ما لم يقولوه، والخلط بين المسائل، وإيراد النصوص والنقول الخارجة عن محل النزاع، فتجدهم مثلا ينقلون كلام أحد العلماء في مسألة جزئية فيفهمون منها حكمًا عامًا ثم ينسبون هذا الفهم إلى ذلك العالم وهكذا، كصنيعهم بكلام أهل العلم مثلا في مسألة الجاسوس، وكيف يصورون القائل بعدم تكفير الجاسوس في صورة من لا يكفر بصورة من صور المظاهرة خلا ما كان عن اعتقاد الكفر، ومعلوم أن بين المسألتين فرقًا، وأنه لا يَلْزَمُ مَنْ رَأَى عدمَ التكفير بالمسألة الأولى أن لا يرى في المسألة الثانية كفرًا.
خذ مثلا نقلهم لعبارة الشيخ عبداللطيف بن عبدالرحمن في تعليقه على حديث حاطب رضي الله عنه حيث يقول: (مع أن في الآية الكريمة ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ ﴾ [الممتحنة: 1] ما يشعر: أن فعل حاطب نوع موالاة وأنه أبلغ إليهم بالمودة وأن فاعل ذلك قد ضل سواء السبيل، لكن قوله: (صدقكم خلوا سبيله) ظاهر في أنه لا يكفر بذلك إذا كان مؤمنًا بالله ورسوله غير شاك ولا مرتاب، وإنما فعل ذلك لغرض دنيوي ولو كفر لما قال: خلوا سبيله. ولا يقال: قوله صلى الله عليه وسلم: (ما يدريك لعل الله اطلع على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم) هو المانع من تكفيره؛ لأنا نقول: لو كفر لما بقي من حسناته ما يمنع من لَحاق الكفر وأحكامه.
فإن الكفر يهدم ما قبله؛ لقوله تعالى: ﴿ وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ ﴾ [المائدة: 5]، وقوله: ﴿ وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴾ [الأنعام: 88]، والكفر محبط للحسنات والإيمان بالإجماع فلا يظن هذا) [الدرر السنية 1 /473]، فهل يصح أن يقال تعلقًا بهذه العبارة: الشيخ عبداللطيف بن عبدالرحمن لا يرى كفر المظاهر من أجل الدنيا؟ أم الواجب ضم هذه العبارة إلى عباراته الصريحة في التكفير، والتفصيل والتفريق بين الصور التي كفر بها والتي لم يكفر، وسيأتي في أثناء البحث أمثلة أخرى على هذه المسألة.
ومثل هذا الخلل في فهم كلام أهل العلم ثم تقويلهم ما لم يقولوه، تتبعُ بعضهم مثلا لكلام أهل العلم في التكفير بمحبة الكفر أو التولي على الدين، وتصويرُ العالم في صورة القائل بأن هذا هو مناط التكفير في مسائل الموالاة والمعاداة، ومن المعلوم أن ثمة فرقًا معتبرًا بين جعل هذه الصورة مناطًا للتكفير وبين جعلها صورة من صور الموالاة المكفرة.
ومن الأخطاء كذلك في هذا السياق عدم التفريق بين حكم الاستعانة بالمشركين في قتال المسلمين وبين حكم مظاهرة المشركين على المؤمنين، وكذا عدم التفريق بين إعانة مسلم لكافر في قتل مسلم من آحاد المسلمين وبين مظاهرة دولة الكفر على دولة الإسلام وعلى المسلمين.
• تصوير القول المخالف على غير وجهه، وإلباس القائلين به لبوسًا ليس لهم، وذلك بخلط الكلام في بحث مسألة الموالاة بالمظاهرة، وتصوير القائل بتكفير المظاهر بصورة من يكفر بمطلق الموالاة، ولا شك أن بحث ما يتعلق بالمسألة العامة (الموالاة) شيء، والكلام في مسألة (المظاهرة) الخاصة شيء آخر، ووالله إني لا أعلم أحدًا منتسبًا للسنة يكفر بمطلق الموالاة - إلا أن يكون له اصطلاح خاص في معنى الموالاة أخص من مدلولها اللغوي فيحاكم إلى اصطلاحه -، بل الكل متفقون على أن موالاة الكفار على قسمين: قسم مكفر، وقسم غير مكفر.
ولذا ترى بعضًا من أهل العلم قد اصطلحوا على جعل التولي كفرًا والموالاة غير مكفرة، فليست المنازعة إذن في حكم مطلق الموالاة وإنما محل المنازعة بأي لوني الموالاة يجب إلحاق المظاهرة، فالقوم يرون فيها موالاةً غير مكفرة ومخالفوهم يرونها من التولي أو الموالاة المكفرة، وبهذا يتبين أن من يُلحق المظاهرة بالموالاة المكفرة لا يرتب الأمر على النحو الذي يصوره بعض الكتاب من أنهم يكفرون المظاهر لأنهم يكفرون كلّ موالٍ للكفار، بل هم يُفصِّلون كما يُفصِّل أولئك وإن خالفوهم في محل إلحاق هذه المسألة.
والذي أظنه في أولئك الأفاضل أنه قد قام بقلوبهم معنى في هذه المسألة وترسخ حتى أضحوا أسرى له لا ينفكون عنه ولا يحيدون، فصاروا لا يقرؤون كلام أهل العلم إلا في ضوئه، ولا يفهمون عباراتهم إلا وَفق ما وقع في قلوبهم، فآلت نتائجُ بحوثهم إلى ما آلت إليه، وصارت المظاهرة في كل أحوالها لونًا من ألوان الموالاة غير المكفرة، ما دام قلب صاحبها (مطمئنًا) بالإيمان!! بل صاروا يوردون استدلالات غريبة شاذة لينصروا قولهم هذا، كقول أحدهم: (بل إعانة الكفار ومظاهرتهم على المسلمين هي في ذاتها من قبيل العداوة المباشرة من المؤمن للمؤمن) وأصرح منه قوله: (لا فرق بين أن يكون قتل المسلم للمسلم من غير إعانة للكفار على المسلمين، أو مع إعانتهم على قتال المسلمين، وليس مع من فرق بين الحالين من جهة اقتضاء الحكم بالكفر بينة)، فعجبًا والله!. كيف أضحى قتال المسلم مع الكفار ضد أهل الإسلام، كقتال أهل الإسلام بعضهم لبعض، وكيف صار القتال الذي يحقق الرفعة للكفار وكفرهم، كقتالٍ لا يحققه ولا يحصله، وكيف صار ذاك القتال المتضمن موالاة جلية ظاهرة للكفار ومعاداة واضحة لأهل الإيمان، كقتال لا يتضمنه ولا يحويه، والفرق بين لوني المقاتلة أكبر من أن يُنبه عليه أو يحتاج إلى دليل.
قراءة و تحميل كتاب مجموع فتاوى ورسائل الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ PDF مجانا
قراءة و تحميل كتاب درج الدرر في تفسير الآي والسور ط الحكمة PDF مجانا
قراءة و تحميل كتاب النّبيّ صلى الله عليه وسلم ويهود المدينة ـ دراسة تحليلية لعلاقات الرسول بيهود المدينة ومواقف المستشرقين منها PDF مجانا
قراءة و تحميل كتاب الحقيقة التي يتجاهلها العلمانيون الإسلام ليس کنيسة! PDF مجانا
قراءة و تحميل كتاب الآيات البينات لما فى أساطير القمنى من الضلال والخرافات PDF مجانا