كتاب العالم الإسلامي في أوائل القرن العشرينكتب التاريخ

كتاب العالم الإسلامي في أوائل القرن العشرين

نبذة عن الكتاب : يمثل كتاب العالم الإسلامي في أوائل القرن العشرين مرجعًا قيمًا لباحثي العلوم التاريخية بصورة خاصة والآثار والجغرافيا ومعظم تخصصات العلوم الإنسانية على نحو عام حيث يركز كتاب العالم الإسلامي في أوائل القرن العشرين على بعض الموضوعات التاريخية الهامة والتي تشغل اهتمام المؤرخين وباحثي التاريخ من مختلف الاتجاهات الفكرية. (١) الإسلام انتهى الإسلام في أوائل القرن التاسع عشر للميلاد إلى نهاية جزره من القوة النفسية والقوة المادية؛ لأنه تلقى عن القرون الأربعة السابقة أثقالًا من المتاعب والأدواء لم تمتحن أمة من قبله بمثلها؛ كان بعضها كافيًا للقضاء على دولة الرومان الشرقية ودولتهم الغربية، وبعضها كافيًا للقضاء على دول الفراعنة والأكاسرة في الزمن القديم، وإن في هذا الميدان من ميادين المقارنة التاريخية لفارقًا يبدو لنا في كثير من الصور بين عظمة الدين وعظمة السياسة، فإن دول السياسة تذهب ولا تعود ولا يوجد بعدها من يحاول إعادتها، ولكن دولة الدين — أو على الأصح قوة الدين — تبقى من وراء الأمم والحكومات كأنها القِوام الذي تتعاقب عليه بنية في أثر بنية، وهو باقٍ يتجدد ولا يستسلم للفناء. ولا نعرف من المؤرخين من يستغرب مصاب الإسلام بعد ما تلقاه من الضربات منذ القرن العاشر إلى القرن التاسع عشر للميلاد، وإنما الغريب عندهم هو تلك القوة المنيعة التي صابر بها الكوارث والشدائد زهاء تسعة قرون، ولم يزل بعدها «وحدة إنسانية» هائلة تتخذ مكانها بين هيئات الأمم، ولا تزال على أمل وثيق في المزيد. ونستطيع أن نتخيل تلك القوة المنيعة بنظرة سريعة نعرض فيها طائفة من الكوارث والشدائد التي صابرتها وصبرت عليها، وهي محيطة بها من خارجها، وناجمة فيها من داخلها وبين ظهرانيها. فقد مضت القرون الأربعة بين القرن الحادي عشر والقرن الخامس عشر في منازلة الجيوش الصليبية، ولم تكد هذه الحروب تنتهي حتى خلفتها حروب «المسألة الشرقية» وهي التي وقفت فيها الدولة العثمانية — وكانت يومئذ دولة الخلافة — تناهض غارة بعد غارة من غارات الدول الأوروبية التي تألبت عليها، وأطلقت عليها اسم «الرجل المريض»؛ لأنها كانت تتنازع ميراثه وهو بقيد الحياة. ولم تكد حروب المسألة الشرقية تنتهي بتنافس «الورثة» على بقية الميراث حتى أعقبتها حملات الشركات وأصحاب الديون، ومعها حملات الاستعمار والتبشير. وقبل الحروب الصليبية وبعدها كان العالم الإسلامي عرضة لأهول الغارات من قبل آسيا الوسطى التي كانت ترسل الفوج بعد الفوج من عشائر التتر والمغول بقيادة جنكيز خان وهولاكو وغازان وتيمورلنك وأتباعهم من القادة والأمراء، وهم لا يفهمون معنى الغلبة إلا أنها قدرة على الفتك والتدمير، وأن أعظم المنتصرين من يقاس انتصاره بعدد من قتل من المحاربين وغير المحاربين، وعدد ما ضرب من المدن والقرى في الطريق. ومنهم من كان يظهر الإسلام ويغير على ممالكه؛ لأنها على زعمه تساس على خلاف شريعة الإسلام! وفي خلال ذلك جميعه كانت الدولة الإسلامية تتسع وتمتد حتى ينقطع ما بينها من الصلة، ويتعذر على القائمين بها أن يجمعوها إلى حكومة واحدة، وكان اتساع الآفاق يصحبه اختلاف المواقع واختلاف السكان واختلاف المصالح والأهواء، فلا تلبث أن تتمزق وتتفرق، ثم تتعادى وتتعاون على البغي والعدوان، ضربات لم تصمد لمثلها دولة من الدول الجامعة أو الدول التي سميت بالإمبراطوريات في الزمن القديم. وقد رأينا كثيرًا من المؤرخين يوازنون بين أخطار هذه الضربات، ويجعلون الحروب الصليبية في مقدمتها، أو يجعلونها فاتحة الضربات يتلوها ما تعاقب بعدها من الأخطار والأخطاء. وهذه الحروب — ولا نكران — كانت من أعظم الأخطار التي امتحنت بها الأمم الإسلامية، ولكننا نعتقد أن الخطر فيها إنما كان على نقيض المفهوم من هذا الخطر في عرف الجملة من مؤرخيها؛ لأنها في الواقع لم تنهك قوى الأمم الإسلامية، ولم تتركها موقنة بالهزيمة في نظر نفسها، بل تركتها وقد أورثتها إفراطًا في الثقة برجحانها وإفراطًا في سوء الظن بأعدائها، وقد كان هذا هو باب الخطر الجسيم إلى عدة قرون. ومن آثار الحروب الصليبية التي لا تفوت أحدًا من المؤرخين: أنها وقفت عواملَ الشقاق بين الأمم الإسلامية ردحًا من الزمن، وأنها جاءت بالترك العثمانيين من أواسط آسيا إلى أرض الروم، ودفعتهم إلى مقابلة الغارة بمثلها في صميم الديار الأوروبية، وأنها أيقظت الشرق الإسلامي كله من تخوم الصين إلى جوف الصحراء الكبرى في القارة الأفريقية، وإن أحمق الحمقى من الصليبيين كان أنفعهم وأقدرهم على إذكاء الحمية في نفوس الأمراء والسلاطين، وإن منهم لمن شغله الملك فوق اشتغاله بالدين. وقد كان يوسف صلاح الدين بطل الحروب الصليبية غير مدافع في نظر الأوروبيين ونظر الشرقيين، ولكن الصفة التي كانت غالبة عليه — ولا شك — هي صفة الحلم الراجح والأناة الهادئة وإيثار الكسب بالسلم والمطاولة على الكسب بالعنف والهجوم، إلا أن هذا الرجل الحليم الرصين ثارت ثائرته حتى الجنون حين سمع بعزم «أرنولد» صاحب الكرك على فتح الحجاز، وإعداده العدة في البر والبحر لاقتحام المدينة والمساس بالقبر الشريف، وسرى وعيد «أرنولد» في المشرق كله، فنسي الخصوم خصومتهم والطامعون مطامعهم، وأقسم صلاح الدين ليقتلن «أرنولد» بيده، فكانت وقعة «حطين» التي تعد من وقائع التاريخ الحاسمة، وظفر صلاح الدين بشرذمة من الملوك والأمراء عفا عنهم جميعًا إلا «أرنولد» هذا؛ فإنه لم يقبل فيه شفاعة من أحد، وتناول سيفه وضرب عنقه بيده، وهو يقول: «برئتُ من شفاعة محمد إن قبلتُ في هذا الأحمق شفاعة شفيع». وقد استنكر الصليبيون أنفسهم حماقة «أرنولد» هذا؛ لأنهم أدركوا أنها استثارت في نفوس المسلمين كل قوة كامنة، وأكسبتهم وقعة «حطين» بعد هزيمتهم في الوقائع التي سبقتها، وهكذا كان الشأن في أحمق الحماقات التي اقترفها شذاذ الصليبيين فإنها أفادت من أرادوه بشرِّها، وارتدت على أصحابها، وعجلت بالتوفيق بين المتنازعين والمتنافسين، وقد بطلت فيهم حيلة الموفقين. وليس هذا الذي نعنيه من آثار الحروب الصليبية في نفوس المسلمين، فإنها آثار ظاهرة لم يغفل عنها أحد من مؤرخي تلك الحروب. ولكننا نعني الأثر الذي عاد بالضرر الوخيم بعد عصر الحروب الصليبية بقرنين أو ثلاثة قرون، وهذا الأثر الوخيم العقبى: هو إفراط المسلمين في الثقة بأنفسهم وإفراطهم في سوء الظن بالأمم الأوروبية وكل ما يأتي من نحوها، حتى أوشكوا أن يوقنوا أنها لا تأتيهم يومًا بشيء يحتاجون إليه، ولولا هذه الثقة لما خطر لرجل كسليمان القانوني في حصافته واقتداره أن يتبرع بالامتيازات الأجنبية لأبناء الأمم الأوروبية الوافدين على بلاده، ولم يكن في وسعها أن تقسره عليها لو لم يتبرع بها في غير اكتراث بعقباها.
عبد الرشيد ابراهيم - نبذة عن المؤلف: عبد الرشيد إبراهيم أفندي ؛ (بالتتارية: Габдрәшит Ибраһимов ) داعية قرمي قازاني تتري عاش في روسيا القيصرية التي استولت قديماً على بلادهم وولد سنة 1273 هـ الموافق عام 1857 م ببلدة تارا في سيبيريا وطلب العلم على مشايخ في بلاده، ولما بلغ من العمر اثنتي عشرة سنة ذهب إلى الحرمين ليمكث في الأراضي الحجازية عشرين سنة، وليعلن برحلته تلك ابتداء سلسلة من الرحلات الطويلة على مدار تسعين سنة تقريباً. كتبت سيرته في جزأين نشرا في تركيا قديماً بعنوان "عالم إسلام"، وقام الأستاذ صالح السامرائي فاعتنى بها وهي في طريقها للخروج إلى القراء بحلة عربية. مكث عبد الرشيد إبراهيم في الحجاز عشرين سنة ينهل من العلوم ثم عاد إلى روسيا ليدعو إلى الله وترامت أخباره إلى أسماع المسلمين فتوافدوا إليه واجتمعوا عليه فضيقت عليه السلطات الروسية القيصرية آنذاك فهرب إلى تركيا. ولما هزمت اليابان القياصرة الروس وخفت حدة ظلمهم وانكسرت شوكتهم عاد إلى بلاده ونشر رسائل تدعو إلى الله وتلقفها الناس وقبلوها. لكن الأحداث المتتالية في روسيا أوحت إليه بالارتحال فشد رحاله عازماً الذهاب في رحلة طويلة إلى اليابان ماراً بمنشوريا ومنغوليا والصين، وكوريا، ثم اليابان ثم الملايو ولم يكن آنذاك قد حصل التقسيم السياسي لها إلى عدة دول ماليزيا وإندونيسيا وبروناي وسنغافورة ثم الهند ثم مر بجزيرة العرب وحج وارتحل من هناك إلى بلاد الشام بالقطار العثماني الذي كان قد افتتح في هذا الوقت ثم سار إلى بيروت وارتحل منها إلى إسطنبول وكان ذلك سنة 1324 هـ الموافق عام 1907م. استقر إبراهيم أفندي في للجمهورية التركية الحديثة، التي حلت محل الإمبراطورية العثمانية بعد الحرب العالمية الأولى، حيث عاش حياةً منعزلة، قبل عودته مجدداً إلى اليابان ليتوفى بها عام 1944م.❰ له مجموعة من الإنجازات والمؤلفات أبرزها ❞ العالم الإسلامي في أوائل القرن العشرين ❝ الناشرين : ❞ المجلس الأعلى للثقافة ❝ ❱
من كتب تاريخ العالم العربي - مكتبة كتب التاريخ.

وصف الكتاب : نبذة عن الكتاب :


يمثل كتاب العالم الإسلامي في أوائل القرن العشرين مرجعًا قيمًا لباحثي العلوم التاريخية بصورة خاصة والآثار والجغرافيا ومعظم تخصصات العلوم الإنسانية على نحو عام



حيث يركز كتاب العالم الإسلامي في أوائل القرن العشرين على بعض الموضوعات التاريخية الهامة والتي تشغل اهتمام المؤرخين وباحثي التاريخ من مختلف الاتجاهات الفكرية.


(١) الإسلام
انتهى الإسلام في أوائل القرن التاسع عشر للميلاد إلى نهاية جزره من القوة النفسية والقوة المادية؛ لأنه تلقى عن القرون الأربعة السابقة أثقالًا من المتاعب والأدواء لم تمتحن أمة من قبله بمثلها؛ كان بعضها كافيًا للقضاء على دولة الرومان الشرقية ودولتهم الغربية، وبعضها كافيًا للقضاء على دول الفراعنة والأكاسرة في الزمن القديم، وإن في هذا الميدان من ميادين المقارنة التاريخية لفارقًا يبدو لنا في كثير من الصور بين عظمة الدين وعظمة السياسة، فإن دول السياسة تذهب ولا تعود ولا يوجد بعدها من يحاول إعادتها، ولكن دولة الدين — أو على الأصح قوة الدين — تبقى من وراء الأمم والحكومات كأنها القِوام الذي تتعاقب عليه بنية في أثر بنية، وهو باقٍ يتجدد ولا يستسلم للفناء.

ولا نعرف من المؤرخين من يستغرب مصاب الإسلام بعد ما تلقاه من الضربات منذ القرن العاشر إلى القرن التاسع عشر للميلاد، وإنما الغريب عندهم هو تلك القوة المنيعة التي صابر بها الكوارث والشدائد زهاء تسعة قرون، ولم يزل بعدها «وحدة إنسانية» هائلة تتخذ مكانها بين هيئات الأمم، ولا تزال على أمل وثيق في المزيد.

ونستطيع أن نتخيل تلك القوة المنيعة بنظرة سريعة نعرض فيها طائفة من الكوارث والشدائد التي صابرتها وصبرت عليها، وهي محيطة بها من خارجها، وناجمة فيها من داخلها وبين ظهرانيها.

فقد مضت القرون الأربعة بين القرن الحادي عشر والقرن الخامس عشر في منازلة الجيوش الصليبية، ولم تكد هذه الحروب تنتهي حتى خلفتها حروب «المسألة الشرقية» وهي التي وقفت فيها الدولة العثمانية — وكانت يومئذ دولة الخلافة — تناهض غارة بعد غارة من غارات الدول الأوروبية التي تألبت عليها، وأطلقت عليها اسم «الرجل المريض»؛ لأنها كانت تتنازع ميراثه وهو بقيد الحياة.

ولم تكد حروب المسألة الشرقية تنتهي بتنافس «الورثة» على بقية الميراث حتى أعقبتها حملات الشركات وأصحاب الديون، ومعها حملات الاستعمار والتبشير.

وقبل الحروب الصليبية وبعدها كان العالم الإسلامي عرضة لأهول الغارات من قبل آسيا الوسطى التي كانت ترسل الفوج بعد الفوج من عشائر التتر والمغول بقيادة جنكيز خان وهولاكو وغازان وتيمورلنك وأتباعهم من القادة والأمراء، وهم لا يفهمون معنى الغلبة إلا أنها قدرة على الفتك والتدمير، وأن أعظم المنتصرين من يقاس انتصاره بعدد من قتل من المحاربين وغير المحاربين، وعدد ما ضرب من المدن والقرى في الطريق. ومنهم من كان يظهر الإسلام ويغير على ممالكه؛ لأنها على زعمه تساس على خلاف شريعة الإسلام!

وفي خلال ذلك جميعه كانت الدولة الإسلامية تتسع وتمتد حتى ينقطع ما بينها من الصلة، ويتعذر على القائمين بها أن يجمعوها إلى حكومة واحدة، وكان اتساع الآفاق يصحبه اختلاف المواقع واختلاف السكان واختلاف المصالح والأهواء، فلا تلبث أن تتمزق وتتفرق، ثم تتعادى وتتعاون على البغي والعدوان، ضربات لم تصمد لمثلها دولة من الدول الجامعة أو الدول التي سميت بالإمبراطوريات في الزمن القديم.

وقد رأينا كثيرًا من المؤرخين يوازنون بين أخطار هذه الضربات، ويجعلون الحروب الصليبية في مقدمتها، أو يجعلونها فاتحة الضربات يتلوها ما تعاقب بعدها من الأخطار والأخطاء.

وهذه الحروب — ولا نكران — كانت من أعظم الأخطار التي امتحنت بها الأمم الإسلامية، ولكننا نعتقد أن الخطر فيها إنما كان على نقيض المفهوم من هذا الخطر في عرف الجملة من مؤرخيها؛ لأنها في الواقع لم تنهك قوى الأمم الإسلامية، ولم تتركها موقنة بالهزيمة في نظر نفسها، بل تركتها وقد أورثتها إفراطًا في الثقة برجحانها وإفراطًا في سوء الظن بأعدائها، وقد كان هذا هو باب الخطر الجسيم إلى عدة قرون.

ومن آثار الحروب الصليبية التي لا تفوت أحدًا من المؤرخين: أنها وقفت عواملَ الشقاق بين الأمم الإسلامية ردحًا من الزمن، وأنها جاءت بالترك العثمانيين من أواسط آسيا إلى أرض الروم، ودفعتهم إلى مقابلة الغارة بمثلها في صميم الديار الأوروبية، وأنها أيقظت الشرق الإسلامي كله من تخوم الصين إلى جوف الصحراء الكبرى في القارة الأفريقية، وإن أحمق الحمقى من الصليبيين كان أنفعهم وأقدرهم على إذكاء الحمية في نفوس الأمراء والسلاطين، وإن منهم لمن شغله الملك فوق اشتغاله بالدين.

وقد كان يوسف صلاح الدين بطل الحروب الصليبية غير مدافع في نظر الأوروبيين ونظر الشرقيين، ولكن الصفة التي كانت غالبة عليه — ولا شك — هي صفة الحلم الراجح والأناة الهادئة وإيثار الكسب بالسلم والمطاولة على الكسب بالعنف والهجوم، إلا أن هذا الرجل الحليم الرصين ثارت ثائرته حتى الجنون حين سمع بعزم «أرنولد» صاحب الكرك على فتح الحجاز، وإعداده العدة في البر والبحر لاقتحام المدينة والمساس بالقبر الشريف، وسرى وعيد «أرنولد» في المشرق كله، فنسي الخصوم خصومتهم والطامعون مطامعهم، وأقسم صلاح الدين ليقتلن «أرنولد» بيده، فكانت وقعة «حطين» التي تعد من وقائع التاريخ الحاسمة، وظفر صلاح الدين بشرذمة من الملوك والأمراء عفا عنهم جميعًا إلا «أرنولد» هذا؛ فإنه لم يقبل فيه شفاعة من أحد، وتناول سيفه وضرب عنقه بيده، وهو يقول: «برئتُ من شفاعة محمد إن قبلتُ في هذا الأحمق شفاعة شفيع».

وقد استنكر الصليبيون أنفسهم حماقة «أرنولد» هذا؛ لأنهم أدركوا أنها استثارت في نفوس المسلمين كل قوة كامنة، وأكسبتهم وقعة «حطين» بعد هزيمتهم في الوقائع التي سبقتها، وهكذا كان الشأن في أحمق الحماقات التي اقترفها شذاذ الصليبيين فإنها أفادت من أرادوه بشرِّها، وارتدت على أصحابها، وعجلت بالتوفيق بين المتنازعين والمتنافسين، وقد بطلت فيهم حيلة الموفقين.

وليس هذا الذي نعنيه من آثار الحروب الصليبية في نفوس المسلمين، فإنها آثار ظاهرة لم يغفل عنها أحد من مؤرخي تلك الحروب.

ولكننا نعني الأثر الذي عاد بالضرر الوخيم بعد عصر الحروب الصليبية بقرنين أو ثلاثة قرون، وهذا الأثر الوخيم العقبى: هو إفراط المسلمين في الثقة بأنفسهم وإفراطهم في سوء الظن بالأمم الأوروبية وكل ما يأتي من نحوها، حتى أوشكوا أن يوقنوا أنها لا تأتيهم يومًا بشيء يحتاجون إليه، ولولا هذه الثقة لما خطر لرجل كسليمان القانوني في حصافته واقتداره أن يتبرع بالامتيازات الأجنبية لأبناء الأمم الأوروبية الوافدين على بلاده، ولم يكن في وسعها أن تقسره عليها لو لم يتبرع بها في غير اكتراث بعقباها.

للكاتب/المؤلف : عبد الرشيد ابراهيم .
دار النشر : المجلس الأعلى للثقافة .
سنة النشر : 1998م / 1419هـ .
عدد مرات التحميل : 1227 مرّة / مرات.
تم اضافته في : الثلاثاء , 12 مارس 2019م.
حجم الكتاب عند التحميل : 14.3 ميجا بايت .

ولتسجيل ملاحظاتك ورأيك حول الكتاب يمكنك المشاركه في التعليقات من هنا:

نبذة عن الكتاب :


يمثل كتاب العالم الإسلامي في أوائل القرن العشرين مرجعًا قيمًا لباحثي العلوم التاريخية بصورة خاصة والآثار والجغرافيا ومعظم تخصصات العلوم الإنسانية على نحو عام 

حيث يركز كتاب العالم الإسلامي في أوائل القرن العشرين على بعض الموضوعات التاريخية الهامة والتي تشغل اهتمام المؤرخين وباحثي التاريخ من مختلف الاتجاهات الفكرية. 


(١) الإسلام
انتهى الإسلام في أوائل القرن التاسع عشر للميلاد إلى نهاية جزره من القوة النفسية والقوة المادية؛ لأنه تلقى عن القرون الأربعة السابقة أثقالًا من المتاعب والأدواء لم تمتحن أمة من قبله بمثلها؛ كان بعضها كافيًا للقضاء على دولة الرومان الشرقية ودولتهم الغربية، وبعضها كافيًا للقضاء على دول الفراعنة والأكاسرة في الزمن القديم، وإن في هذا الميدان من ميادين المقارنة التاريخية لفارقًا يبدو لنا في كثير من الصور بين عظمة الدين وعظمة السياسة، فإن دول السياسة تذهب ولا تعود ولا يوجد بعدها من يحاول إعادتها، ولكن دولة الدين — أو على الأصح قوة الدين — تبقى من وراء الأمم والحكومات كأنها القِوام الذي تتعاقب عليه بنية في أثر بنية، وهو باقٍ يتجدد ولا يستسلم للفناء.

ولا نعرف من المؤرخين من يستغرب مصاب الإسلام بعد ما تلقاه من الضربات منذ القرن العاشر إلى القرن التاسع عشر للميلاد، وإنما الغريب عندهم هو تلك القوة المنيعة التي صابر بها الكوارث والشدائد زهاء تسعة قرون، ولم يزل بعدها «وحدة إنسانية» هائلة تتخذ مكانها بين هيئات الأمم، ولا تزال على أمل وثيق في المزيد.

ونستطيع أن نتخيل تلك القوة المنيعة بنظرة سريعة نعرض فيها طائفة من الكوارث والشدائد التي صابرتها وصبرت عليها، وهي محيطة بها من خارجها، وناجمة فيها من داخلها وبين ظهرانيها.

فقد مضت القرون الأربعة بين القرن الحادي عشر والقرن الخامس عشر في منازلة الجيوش الصليبية، ولم تكد هذه الحروب تنتهي حتى خلفتها حروب «المسألة الشرقية» وهي التي وقفت فيها الدولة العثمانية — وكانت يومئذ دولة الخلافة — تناهض غارة بعد غارة من غارات الدول الأوروبية التي تألبت عليها، وأطلقت عليها اسم «الرجل المريض»؛ لأنها كانت تتنازع ميراثه وهو بقيد الحياة.

ولم تكد حروب المسألة الشرقية تنتهي بتنافس «الورثة» على بقية الميراث حتى أعقبتها حملات الشركات وأصحاب الديون، ومعها حملات الاستعمار والتبشير.

وقبل الحروب الصليبية وبعدها كان العالم الإسلامي عرضة لأهول الغارات من قبل آسيا الوسطى التي كانت ترسل الفوج بعد الفوج من عشائر التتر والمغول بقيادة جنكيز خان وهولاكو وغازان وتيمورلنك وأتباعهم من القادة والأمراء، وهم لا يفهمون معنى الغلبة إلا أنها قدرة على الفتك والتدمير، وأن أعظم المنتصرين من يقاس انتصاره بعدد من قتل من المحاربين وغير المحاربين، وعدد ما ضرب من المدن والقرى في الطريق. ومنهم من كان يظهر الإسلام ويغير على ممالكه؛ لأنها على زعمه تساس على خلاف شريعة الإسلام!

وفي خلال ذلك جميعه كانت الدولة الإسلامية تتسع وتمتد حتى ينقطع ما بينها من الصلة، ويتعذر على القائمين بها أن يجمعوها إلى حكومة واحدة، وكان اتساع الآفاق يصحبه اختلاف المواقع واختلاف السكان واختلاف المصالح والأهواء، فلا تلبث أن تتمزق وتتفرق، ثم تتعادى وتتعاون على البغي والعدوان، ضربات لم تصمد لمثلها دولة من الدول الجامعة أو الدول التي سميت بالإمبراطوريات في الزمن القديم.

وقد رأينا كثيرًا من المؤرخين يوازنون بين أخطار هذه الضربات، ويجعلون الحروب الصليبية في مقدمتها، أو يجعلونها فاتحة الضربات يتلوها ما تعاقب بعدها من الأخطار والأخطاء.

وهذه الحروب — ولا نكران — كانت من أعظم الأخطار التي امتحنت بها الأمم الإسلامية، ولكننا نعتقد أن الخطر فيها إنما كان على نقيض المفهوم من هذا الخطر في عرف الجملة من مؤرخيها؛ لأنها في الواقع لم تنهك قوى الأمم الإسلامية، ولم تتركها موقنة بالهزيمة في نظر نفسها، بل تركتها وقد أورثتها إفراطًا في الثقة برجحانها وإفراطًا في سوء الظن بأعدائها، وقد كان هذا هو باب الخطر الجسيم إلى عدة قرون.

ومن آثار الحروب الصليبية التي لا تفوت أحدًا من المؤرخين: أنها وقفت عواملَ الشقاق بين الأمم الإسلامية ردحًا من الزمن، وأنها جاءت بالترك العثمانيين من أواسط آسيا إلى أرض الروم، ودفعتهم إلى مقابلة الغارة بمثلها في صميم الديار الأوروبية، وأنها أيقظت الشرق الإسلامي كله من تخوم الصين إلى جوف الصحراء الكبرى في القارة الأفريقية، وإن أحمق الحمقى من الصليبيين كان أنفعهم وأقدرهم على إذكاء الحمية في نفوس الأمراء والسلاطين، وإن منهم لمن شغله الملك فوق اشتغاله بالدين.

وقد كان يوسف صلاح الدين بطل الحروب الصليبية غير مدافع في نظر الأوروبيين ونظر الشرقيين، ولكن الصفة التي كانت غالبة عليه — ولا شك — هي صفة الحلم الراجح والأناة الهادئة وإيثار الكسب بالسلم والمطاولة على الكسب بالعنف والهجوم، إلا أن هذا الرجل الحليم الرصين ثارت ثائرته حتى الجنون حين سمع بعزم «أرنولد» صاحب الكرك على فتح الحجاز، وإعداده العدة في البر والبحر لاقتحام المدينة والمساس بالقبر الشريف، وسرى وعيد «أرنولد» في المشرق كله، فنسي الخصوم خصومتهم والطامعون مطامعهم، وأقسم صلاح الدين ليقتلن «أرنولد» بيده، فكانت وقعة «حطين» التي تعد من وقائع التاريخ الحاسمة، وظفر صلاح الدين بشرذمة من الملوك والأمراء عفا عنهم جميعًا إلا «أرنولد» هذا؛ فإنه لم يقبل فيه شفاعة من أحد، وتناول سيفه وضرب عنقه بيده، وهو يقول: «برئتُ من شفاعة محمد إن قبلتُ في هذا الأحمق شفاعة شفيع».

وقد استنكر الصليبيون أنفسهم حماقة «أرنولد» هذا؛ لأنهم أدركوا أنها استثارت في نفوس المسلمين كل قوة كامنة، وأكسبتهم وقعة «حطين» بعد هزيمتهم في الوقائع التي سبقتها، وهكذا كان الشأن في أحمق الحماقات التي اقترفها شذاذ الصليبيين فإنها أفادت من أرادوه بشرِّها، وارتدت على أصحابها، وعجلت بالتوفيق بين المتنازعين والمتنافسين، وقد بطلت فيهم حيلة الموفقين.

وليس هذا الذي نعنيه من آثار الحروب الصليبية في نفوس المسلمين، فإنها آثار ظاهرة لم يغفل عنها أحد من مؤرخي تلك الحروب.

ولكننا نعني الأثر الذي عاد بالضرر الوخيم بعد عصر الحروب الصليبية بقرنين أو ثلاثة قرون، وهذا الأثر الوخيم العقبى: هو إفراط المسلمين في الثقة بأنفسهم وإفراطهم في سوء الظن بالأمم الأوروبية وكل ما يأتي من نحوها، حتى أوشكوا أن يوقنوا أنها لا تأتيهم يومًا بشيء يحتاجون إليه، ولولا هذه الثقة لما خطر لرجل كسليمان القانوني في حصافته واقتداره أن يتبرع بالامتيازات الأجنبية لأبناء الأمم الأوروبية الوافدين على بلاده، ولم يكن في وسعها أن تقسره عليها لو لم يتبرع بها في غير اكتراث بعقباها.



نوع الكتاب : pdf.
اذا اعجبك الكتاب فضلاً اضغط على أعجبني
و يمكنك تحميله من هنا:

تحميل العالم الإسلامي في أوائل القرن العشرين
عبد الرشيد ابراهيم
عبد الرشيد ابراهيم
Abdul Rashid Ibrahim
نبذة عن المؤلف: عبد الرشيد إبراهيم أفندي ؛ (بالتتارية: Габдрәшит Ибраһимов ) داعية قرمي قازاني تتري عاش في روسيا القيصرية التي استولت قديماً على بلادهم وولد سنة 1273 هـ الموافق عام 1857 م ببلدة تارا في سيبيريا وطلب العلم على مشايخ في بلاده، ولما بلغ من العمر اثنتي عشرة سنة ذهب إلى الحرمين ليمكث في الأراضي الحجازية عشرين سنة، وليعلن برحلته تلك ابتداء سلسلة من الرحلات الطويلة على مدار تسعين سنة تقريباً. كتبت سيرته في جزأين نشرا في تركيا قديماً بعنوان "عالم إسلام"، وقام الأستاذ صالح السامرائي فاعتنى بها وهي في طريقها للخروج إلى القراء بحلة عربية. مكث عبد الرشيد إبراهيم في الحجاز عشرين سنة ينهل من العلوم ثم عاد إلى روسيا ليدعو إلى الله وترامت أخباره إلى أسماع المسلمين فتوافدوا إليه واجتمعوا عليه فضيقت عليه السلطات الروسية القيصرية آنذاك فهرب إلى تركيا. ولما هزمت اليابان القياصرة الروس وخفت حدة ظلمهم وانكسرت شوكتهم عاد إلى بلاده ونشر رسائل تدعو إلى الله وتلقفها الناس وقبلوها. لكن الأحداث المتتالية في روسيا أوحت إليه بالارتحال فشد رحاله عازماً الذهاب في رحلة طويلة إلى اليابان ماراً بمنشوريا ومنغوليا والصين، وكوريا، ثم اليابان ثم الملايو ولم يكن آنذاك قد حصل التقسيم السياسي لها إلى عدة دول ماليزيا وإندونيسيا وبروناي وسنغافورة ثم الهند ثم مر بجزيرة العرب وحج وارتحل من هناك إلى بلاد الشام بالقطار العثماني الذي كان قد افتتح في هذا الوقت ثم سار إلى بيروت وارتحل منها إلى إسطنبول وكان ذلك سنة 1324 هـ الموافق عام 1907م. استقر إبراهيم أفندي في للجمهورية التركية الحديثة، التي حلت محل الإمبراطورية العثمانية بعد الحرب العالمية الأولى، حيث عاش حياةً منعزلة، قبل عودته مجدداً إلى اليابان ليتوفى بها عام 1944م. ❰ له مجموعة من الإنجازات والمؤلفات أبرزها ❞ العالم الإسلامي في أوائل القرن العشرين ❝ الناشرين : ❞ المجلس الأعلى للثقافة ❝ ❱.



كتب اخرى في كتب تاريخ العالم العربي

علم الدين علي باشا مبارك الجزء الثالث PDF

قراءة و تحميل كتاب علم الدين علي باشا مبارك الجزء الثالث PDF مجانا

علم الدين علي باشا مبارك الجزء الرابع PDF

قراءة و تحميل كتاب علم الدين علي باشا مبارك الجزء الرابع PDF مجانا

علم الدين علي باشا مبارك PDF

قراءة و تحميل كتاب علم الدين علي باشا مبارك PDF مجانا

التاريخ الإسلامي وفكر القرن العشرين.. دراسات نقدية في تفسير التاريخ PDF

قراءة و تحميل كتاب التاريخ الإسلامي وفكر القرن العشرين.. دراسات نقدية في تفسير التاريخ PDF مجانا

تاريخ الولايات المتحدة الأمريكية من القرن السادس عشر حتى القرن العشرين PDF

قراءة و تحميل كتاب تاريخ الولايات المتحدة الأمريكية من القرن السادس عشر حتى القرن العشرين PDF مجانا

المدخل في تاريخ الولايات المتحدة الأمريكية.. الجزء الأول حتى 1877 PDF

قراءة و تحميل كتاب المدخل في تاريخ الولايات المتحدة الأمريكية.. الجزء الأول حتى 1877 PDF مجانا

اهتمام الولايات المتحدة الأمريكية المبكر بنجد PDF

قراءة و تحميل كتاب اهتمام الولايات المتحدة الأمريكية المبكر بنجد PDF مجانا

الأوضاع الاجتماعية والسياسية للجالية العربية في الولايات المتحدة الأمريكية PDF

قراءة و تحميل كتاب الأوضاع الاجتماعية والسياسية للجالية العربية في الولايات المتحدة الأمريكية PDF مجانا

المزيد من كتب التاريخ الإسلامي في مكتبة كتب التاريخ الإسلامي , المزيد من كتب تاريخ العالم العربي في مكتبة كتب تاريخ العالم العربي , المزيد من التراجم والأعلام في مكتبة التراجم والأعلام , المزيد من كتب السير و المذكرات في مكتبة كتب السير و المذكرات , المزيد من كتب الأنساب في مكتبة كتب الأنساب , المزيد من كتب التراجم على الطبقات في مكتبة كتب التراجم على الطبقات , المزيد من كتب تاريخ العالم الغربي في مكتبة كتب تاريخ العالم الغربي , المزيد من كتب تاريخ أفريقيا في مكتبة كتب تاريخ أفريقيا , المزيد من كتب تاريخ مصر في مكتبة كتب تاريخ مصر
عرض كل كتب التاريخ ..
اقرأ المزيد في مكتبة كتب إسلامية , اقرأ المزيد في مكتبة كتب تقنية المعلومات , اقرأ المزيد في مكتبة المناهج التعليمية والكتب الدراسية , اقرأ المزيد في مكتبة القصص والروايات والمجلّات , اقرأ المزيد في مكتبة كتب الهندسة والتكنولوجيا , اقرأ المزيد في مكتبة الكتب والموسوعات العامة , اقرأ المزيد في مكتبة كتب تعلم اللغات , اقرأ المزيد في مكتبة كتب التنمية البشرية , اقرأ المزيد في مكتبة الكتب التعليمية , اقرأ المزيد في مكتبة كتب التاريخ , اقرأ المزيد في مكتبة كتب الأطفال قصص ومجلات , اقرأ المزيد في مكتبة كتب الطب , اقرأ المزيد في مكتبة الكتب العلمية , اقرأ المزيد في مكتبة كتب علوم سياسية وقانونية , اقرأ المزيد في مكتبة كتب الأدب , اقرأ المزيد في مكتبة كتب الروايات الأجنبية والعالمية , اقرأ المزيد في مكتبة كتب اللياقة البدنية والصحة العامة , اقرأ المزيد في مكتبة كتب الأسرة والتربية الطبخ والديكور , اقرأ المزيد في مكتبة الكتب الغير مصنّفة , اقرأ المزيد في مكتبة كتب المعاجم واللغات , اقرأ المزيد في مكتبة كتب علوم عسكرية و قانون دولي
جميع مكتبات الكتب ..